فلسفة المقاطعة
أكتب هذه الكلمات بينما تتردد في ذهني أصداء "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين". فقد تحدثت في أكثر من مقال سابق عن ما يطلق عليه انتخابات في مصر، ولا أخفي عليكم أنني استهلكت كميات ليست بالقليلة من الحبر والأوراق لتوضيح وجهة نظرنا في هذا الأمر. ثم توقفت عن الكتابة قرابة الشهرين لأسباب شخصية وحين قررت العودة كان أول ما تبادر إلى ذهني أن أكتبه هو نفس الموضوع الذي توقفت عنده منذ شهرين تقريبا، وهو معضلة ما يطلق عليه انتخابات في مصر. أكتب هذه الكلمات لعلني أذكر فعلا، ولعلها تنفع المؤمنين!
أعتقد أن مجرد الحديث الآن بطريقة جدلية عن ما إذا كان الأفضل المشاركة في (انتخابات) مجلس الشعب القادمة أم مقاطعتها أمر ساذج للغاية. فتلك المناقشة تصبح في سخفها كأن تناقش أمورا بديهية جـُربت من قبل وأثبت العقل والمنطق فيها أمرا ثم أثبتته وأكدته التجارب العملية عدة مرات. فلا يصح لعاقل أن يفتح نقاشا حول إمكانية أن تضع يدك في النار!. فالعقل والمنطق يؤكدان أن النار ستحرق يدك، والتجارب العملية منذ اكتشاف النار في آواخر العصر الحجري أثبتت أنها تصيب الإنسان بحروق. فلا يمكن أن نبدأ أي مناقشة من الصفر وننسى كل ما فات وكأننا جئنا إلى هذا العالم بلا تاريخ نتعلم منه ودون أي معرفة إنسانية شكلت وجداننا. أما لو كان لدينا تلك المعارف والتجارب السابقة وننكرها ثم نبدأ من الصفر أو نقع في نفس الأخطاء بعد ما جاءنا من العلم والتجربة عند ذلك نصبح كبني إسرائيل حين وصفهم القرآن الكريم أنهم "كالحمار يحمل أسفارا"!!
من هذا المنطلق أتحدث مباشرة عن الضرورة الحتمية لمقاطعة انتخابات مجلس الشعب القادمة (2010) تصويتا وترشيحا. فالمقاطعة الآن لم تعد ترفا أو اختيارا بل ضرورة حتمية في ظل الوضع السياسي الراهن. نحن نمر بمرحلة حرجة ستحدد مستقبل النظام السياسي في مصر ربما لعقود قادمة. ولذلك يجب علينا توخي الحذر حتى لا نندم في المستقبل على ما نفعله اليوم من أخطاء هي في الأصل تكرار لأخطاء وقعنا فيها من قبل!!. والمقاطعة بالنسبة لي كفلسفة تتركز في ثلاث محاور أولها أمرا مبدئيا يتعلق برؤيتي للوضع الحالي للانتخابات دون إشراف قضائي ودولي، وفي ظل حالة الطوارئ (الأحكام العرفية)، ودون حرية تكوين الأحزاب وتجميد بعضها وعدم حريتها في الحركة بالشارع، وعدم تكافؤ الفرص إعلاميا بينها وبين الحزب الوطني المسيطر على أجهزة الإعلام الرسمية منذ عصر الاتحاد الاشتراكي!، وفي ظل عدم حرية إصدار الصحف وإغلاق بعضها (الشعب – آفاق عربية)، وفي ظل مطاردة الكتاب الصحفيين بقوانين الحبس في قضايا النشر (عبدالحليم قنديل – مجدي حسين – وائل الإبراشي – إبراهيم عيسى – عادل حمودة). ورؤيتي أن المشاركة في الانتخابات في ظل تلك الظروف السابقة تمثل خداعا للشعب عبر بث سراب ديمقراطي كاذب ووهم مخدر يتاجر في أوجاع الناس لتحقيق مكاسب برلمانية رخيصة!. علاوة على أن من يشارك في الانتخابات بالوضع الراهن سابق الذكر يقبل أن يلعب دور كومبارس في فيلم شديد الهبوط والإسفاف، وهو بذلك يقدم أكبر خدمة للنظام حتى يظهر بمظهر ديمقراطي زائف أمام العالم. والمشاركة في هذه الانتخابات تحديدا تمثل اعترافا بشرعية اللعبة التي يلعبها تيارات المال في الحزب الوطني من أجل تصعيد جمال مبارك إلى كرسي الحكم. فالمشاركة هنا تحتوي على سقطة تاريخية وخطيئة أخلاقية فهي لا تخدم فقط النظام في تجميل صورته بل يصبح المشارك – والعياذ بالله – يلعب دور شاهد الزور على شرعية عملية التوريث البغيضة!
والأمر الثاني في فلسفة المقاطعة هو المصلحة. غير صحيح أن المصلحة (البراجماتية) تحكم علينا أن نشارك في الانتخابات، فقواعد اللعبة دائما تفيد من وضعوها. وحسابات المكسب والخسارة ستكون بالتأكيد في صف الحزب الوطني. فلا أمل على الإطلاق في تغيير نتيجة الانتخابات "المحسومة مسبقا" وعلينا أن نرجع بالذاكرة لانتخابات الشورى 2007م والمحليات 2008م ثم الشورى 2010م وسنكتشف بأنفسنا أنه لا مكاسب على الإطلاق من اللعبة إلا لمن وافق أن يعقد صفقات رخيصة مع الحزب الوطني، فلماذا المشاركة إذن؟!
والأمر الثالث يتعلق بالمنهج الذي أتخذه في تحليل الوضع السياسي القائم. فالنظام السياسي لا يحمل أي شرعية شعبية ومعادي لكل فئات الشعب من أول أساتذة الجامعات والأطباء وحتى سائقي سيارات الأجرة. إلى جانب وقوف هذا النظام ضد رغبات الشعب المصري المتعاطف بطبيعته مع الأشقاء في فلسطين والعراق، واتخاذ هذا النظام سياسة القرب من "إسرائيل" ومعادة كل ما هو فلسطيني بل وتفضيل "إسرائيل" على مصر أحيانا!. فهذا النظام يصدر الغاز "لإسرائيل" بسعر أقل من سعر تكلفته ليدعم فاتورة الكهرباء هناك بينما تحدث أزمة انقاطع الكهرباء في مصر بسبب نقص إمدادات الغاز!. هذا النظام هو من يحاصر غزة لمصلحة "إسرائيل"، وهو من سمح بمرور الطائرات والبوارج الحربية الأمريكية من المجال الجوي المصري والمياه الإقليمية أثناء حرب غزو العراق عام 2003م. وتلك المواقف التي اتخذها النظام بالتحالف مع أمريكا و"إسرائيل" وبالبعد عن الامتداد الطبيعي لمصر عربيا وإسلاميا وإفريقيا جعلت منه نظاما معاديا لرغبات وطموحات الشعب المصري وتحول إلى قاتل للمصريين كما حدث مع الشاب خالد سعيد ومن قبله ضحايا العبارة وصخرة الدويقة وحريق قطار الصعيد. وتلك الممارسات لا تأتي إلا من قبل نظام احتلال غير شرعي يجب مقاومته سلميا بالعصيان المدني ولا شرعية لأي انتخابات يجريها أبدا.
إن مقاطعة الانتخابات في الوضع الراهن أمرا بديهيا لا يقبل الشك. والمشاركة فيها في ظل نظام غير شرعي علاوة على أنه يمثل خطيئة تاريخية وسقطة أخلاقية يمثل أيضا ارتدادا بالحركة الوطنية للخلف بعد أن وصلت إلى اتجاه التغيير الجذري عام 2005م. إن فلسفة المقاطعة ليست تبريرا للكسل، أو اختيارا للطريق الأسهل بل هي العكس تماما هي المواجهة مع النظام بالعصيان المدني لا بعقد الصفقات من أجل كرسي البرلمان!
هناك 4 تعليقات:
أرفع لك القبعة تقديراً وإحتراماً
بصراحة المقال أكثر من رائع، والتحليل مقنع للغاية، الإنتخابات البرلمانية فى مصر مسرحية هزلية والمشاركون فيها مجرد دٌمى يحركها الحزب الحاكم لإضفاء شرعية على مسرحية مرسومة مسبقا وكل كومبارس يلعب دوره فيها، تحياتى أخى بارك الله فيك على المقال
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الحبيب م / محمد عبد العزيز سلام الله عليكم .............. /
بداية أوجة لك ألف تحية و عود حميد أخى الحبيب لمنبركم الحر الذى أخذ من إسمة الكثير ( مصرى حر ) ...
تفضلت و كتبت أخى الحبيب رأيك الذى طالما عهدتك دائما علية رأيا فى مواجة طوفان الفساد و طغيان السلطة .
إن الضربة التى تقتل هذا النظام هى فعلا عندما يشعر أنة لا يواجة مجموعات قليلة تقوم بمظاهرة هنا و إعتصام هناك " مع أهمية و ضرورة ذلك " لكن ما يستشعر بة خطرا قاتلآ هو عندما يواجة أناسا أثر تنظيما و وعيا و لهم من التأثير فى الشارع المصرى ما يحرك الساكن منذ سنوات طويلة النظام عندنا يخشى أن يواجة مثل هذا التحرك لذلك هو يخشى الإخوان خاصة حينما يخوض الإخوان المسلمين إنتخابات لأنهم منظمون جدا و يعملون بعقيدة أعتقد أنها عقيدة قتالية لكنها تابعة لأوامر قيادة روحانية و أيضا تنظيمية .هذا النظام بحق يخشى المجابهة خاصة حينما تكون مجابهة حاشدة تقود الشارع إلى ما يريدة الناس و برؤيتهم هم لا برؤية النظام و تمثيلياتة السخيفة .....
لذلك أخى الحبيب حينما تقاطع الإنتخابات قوى و تياررات سياسية مؤثرة و تستبدل بهذة المسرحية عصيانا مدنيا يعلن أنة لا يرغب بهذا النظام و يريد إزاحتة مع إستعداد الناس لطريق صعب من التضحيات و التبعات المؤلمة لهذا الأمر .............
دائما أخى الحبيب للحديث بقية و إلى أن ألقاك إن شاء الله تحياتى لك و تقديرى .........
شريف جامع
وائل
اشكرك بشدة والمدونة تسعد دائما بتعليقاتك ومرورك الكريم
هند
شكرا اختي العزيزة، وكلامك مظبوط جدا الانتخابات مسرحية والمشاركون دمى فعلا تحياتي
شريف
أشكرك أخي الكريم واتمنى ان استمر بعد العودة على نفس المستوى .. أما موضوع الاخوان كلامك صحيح لكن اذا كان هناك انتخابات اصلا او شبهة انتخابات مثل ما حدث في 2005م أما بعد تعديلات الانقلاب على الدستور في 2007م والغاء الاشراف القضائي الذي كان يمثل آخر امل ستجد انه لم ينجح اخواني واحد في الشورى 2007 ثم انسحب الاخوان في المحليات 2008 ثم فشلوا جميعا في الحصول على أي مقعد في الشورى 2010 يعني أصبحت اللعبة في اتجاه واحد فقط!!! المشكلة اصرارهم على المشاركة عد كل ذلك غريب اما انهم عقدوا صفقة!! واما انهم لا يتعلمون من الاخطاء والسببين اخطر من بعض!!
تحياتي
محمد عدالعزيز
إرسال تعليق