معنى "إسقاط النظام"
في مساء 28 يناير 2011م، تصاعدت دراما الأحداث إلى أقصى درجات السخونة، كنت مع مجموعة من خيرة شباب الثورة، معتقلين بمعسكر للأمن المركزي بالجبل الأحمر، ومع التصاعد المعروف في مجريات الأمور جرى الإفراج عنا بصورة مرتبكة للغاية، وبدا الانهيار واضحا على ضابط أمن الدولة الذي قابلنا متعجرفا حين جئنا في صباح 26 يناير، أدركت لحظتها أن المشهد خارج الأسوار قد وصل إلى مرحلة اللاعودة مع النظام، وتذكرت هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي سطع طوال ليل 25 يناير في ميدان التحرير!
خرجنا في سيارة الترحيلات، وكان ليل القاهرة على غير عادته ساكنا، والصورة في الأفق تبدو في سكون ما بعد عاصفة، وهدوء ما قبل إعصار، وبوسائل مواصلات مختلفة – لا داعي لذكر تفاصيلها الآن – وصلنا إلى ميدان رمسيس، ومنه مشيا إلى ميدان التحرير، لم يشغل بالي وقتها أني لم أذق طعم النوم منذ 25 يناير، ولا إرهاق جسدي النحيل الذي أضعفه برد الشتاء حين كنا نفترش البلاط في معسكر الاعتقال، ولا جاء على بالي كذلك أهلي الذين لم يعرفوا طريقا لي منذ اختفائي في ظروف ملتبسة يوم 26 يناير، عرفوا بعدها من زملاء لي أني قد تم اعتقالي، كل ما خطر على بالي وقتها .. ما هي الخطوة التالية؟!
في صباح 29 يناير كان ميدان التحرير على موعد مع القدر، فدماء الشهداء التي سالت على أرضه، والأراضي المجاورة له، اختزنت الألم والغضب، وكان الثأر ينادي وجداننا، والأمل يدفعنا دفعا لأمر واحد من اثنين، لا ثالث لهما، النصر أو الشهادة، وقفت أهتف مناديا بسقوط النظام، ولأول مرة ترد آهات المصريين، فتهز المكان، بعد أن اعتدنا سابقا على مظاهرات تجمع "نشطاء سياسيين"، وكثيرا ما راودنا الأمل في تحرك الجماهير، إنها الجماهير تلبي النداء، وأذن في الناس، صدقت يا رب العزة، لقد أذنا حتى تعب صوتنا، واعتقدنا أنه ذهب هدرا، لكن صداه ارتد فهز الجبال، وهزم البارود، وقنابل الغاز، وحطم قيود الخوف، وأغلال ثلاثين عاما سوداء في تاريخ البلاد، كنت أختم كل مجموعة هتافات بهتاف الشعب يريد إسقاط النظام .. وهنا اتضح لي لأول مرة أن الثوار ليس وحدهم في الميدان، فقد ظهرت مجموعة في كل مرة أهتف فيها الشعب يريد إسقاط "النظام"، تصر على تحويل الهتاف إلى الشعب يريد إسقاط "الرئيس"! .. كانت تلك المجموعة ليس صعبا بالنسبة لي أن أشتم منها رائحة صنع في الداخلية!، فكثيرا ما ميزت ذلك النوع من البشر الذي يعمل لحساب جهاز الأمن، ولحظتها توقفت عن الهتاف قائلا :" نحن لا نريد إسقاط الرئيس .. نحن نريد إسقاط النظام بأكمله .. النظام يعني الرئيس وكل سياساته" .. واتضحت عبقرية الشعب المصري حين قام بعد ذلك بنفسه وبدون تدخل مني أو من غيري من النشطاء، بإسكات كل من يهتف الشعب يريد إسقاط الرئيس .. ليتحول الشعار المركزي إلى الشعب يريد إسقاط النظام.
النظام .أي نظام. هو أشخاص، ومؤسسات، واختيارات سياسية واقتصادية، وحين قامت الثورة، وانتصرت في المشهد الأول من الفصل الأول، أسقطت بعض الأشخاص، وبتعب أكثر ومليونيات، ومناهدة وطلوع روح، أسقطت أشخاص أكثر، وبعض المؤسسات، لكنها حتى الآن لم تتمكن من إسقاط اختيارات نظام مبارك السياسية والاقتصادية، وهذه هي أكبر مشكلة!
الثورة .أي ثورة. هي تغيير جذري، سياسي، وإقتصادي، وإجتماعي، ومقاطعة كافة الاختيارات السياسية والاقتصادية التي قامت ضدها هذه الثورة، وهنا يطرح البعض سؤالا مهما .. هل كان المجلس العسكري قبل 25 يناير جزءا من نظام مبارك السياسي الذي قامت الثورة ضده؟! .. والإجابة تحتاج إلى تأني، فالجنرالات أعضاء المجلس العسكري لم يمارسوا العمل السياسي قبل 25 يناير، لانضباط المؤسسة العسكرية، وابتعادها عن العمل السياسي وتحزباته، لكن – وهذه هي المشكلة الأخطر – أنه حين أصبح للجنرالات دور سياسي مطلوب، بحكم إدارتهم للبلاد، اختاروا وبمحض إرادتهم نفس الاختيارات السياسية والاقتصادية، التي قامت الثورة ضدها، وبالتالي تحولوا وبغباء شديد إلى امتداد لنظام ثار المصريون لإسقاطه!
نظر الجنرالات لحقوق المصريين الطبيعية، على أنها مطالب "فئوية"، ونسوا أو تناسوا، أن عدم الإحساس بالعدالة في توزيع الثروة هو أصل المشكلة، وتعامل الجنرالات مع تلك المطالب بغض الطرف، ثم الدعاية ضدها، تحت دعاوي كاذبة هي تعطيل عجلة الإنتاج، ثم بالعنف ذاته الذي انتهى به مبارك حين قرر مواجهة الشعب!، سيقول بعض الجنرالات، وبعض المنافقين، أن الاقتصاد لا يسمح، ونقول لهم حتى الآن الفارق الكبير بين الأجور هو المشكلة، لا تدعموا الكبراء، وانحازوا للفقراء، نعلم أن الحد الأدنى للأجور يحتاج لموارد، ولكن نعلم أيضا أن الحد الأقصى يحتاج لقرار، ويوفر موارد!
اعتبر الجنرالات أن نقدهم قلة أدب، وأن الخروج عن طاعتهم المطلقة، جريمة تستحق العقاب في النيابة العسكرية، وانتهت أكذوبة حرية الإعلام بعد الثورة .التي لم تنتهي بعد. فالحرية المقصودة، هي الحرية على مقاس الجنرالات، فرأينا إعلام هيكل هو إعلام الفقي وصفوت الشريف، ورأينا مصادرة جرائد صوت الأمة وروز اليوسف، والتهديد بمصادرة الفجر، ورأينا منع حلقة الإعلامي المتميز والمحترم يسري فودة، للتعليق على ما قاله الجنرالات في حوار تليفزيوني، واعتقل الجنرالات الناشط علي الحلبي لأنه كتب على الجدران ما أغضب المجلس العسكري، وهي نفس النهاية التي وصل إليها المخلوع، لا يريد سماع سوى صوته، ولا يرى سوا رأيه، وكل ما في باله عن الشعب، عبارة خليهم يتسلوا! .. أما المجلس العسكري فقد منع حتى تلك التسلية!
حين كان على المجلس العسكري أن يختار طريقا، يمثل انحيازا سياسيا واقتصاديا، اختار طريق المخلوع، ومشى على خطاه،بالحرف والفاصلة والنقطة، عادى الثوار، واحتضن الفجار، رعى الفلول، وجعلهم هم الأصول، فتحول المجلس العسكري إلى امتداد طبيعي لنظام مبارك المراد إسقاطه، وبدلا من أن ينفذ تعهده بحماية الثورة، وتنفيذ مطالبها المشروعة، تحول عن عمد إلى مجلس لقيادة الثورة .. المضادة! .. الشعب – ما زال – يريد إسقاط النظام.
هناك تعليق واحد:
بجد انا مش لاقيه كلام اقولهولك من روعة المقال انا بجد جسمي قشعر من قوة معنى الكلام
إرسال تعليق